السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه السورة الصغيرة في حجمها ولكنها عظيمة في تفسيرها وآياتها !!!
سبب نزول سورة الكوثر
قال ابن إسحاق : وكان العاص بن وائل السهمي - فيما بلغني - إذا ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عقب له لو مات لانقطع ذكره واسترحتم منه فأنزل الله في ذلك إنا أعطيناك الكوثر ما هو خير لك من الدنيا وما فيها والكوثر : العظيم
تفسير هذه السورة القصيرة ولكن تفسيرها اكبر منها!!!
الأبتر والكوثر
فصل وذكر قول العاص بن وائل إن محمدا أبتر إذا مات انقطع ذكره وأنزل الله تعالى فيه قوله من سورة الكوثر على قول ابن إسحاق ، وأكثر المفسرين . وقيل إن أبا جهل هو الذي قال ذلك . وقد قيل كعب بن الأشرف ويلزم على هذا القول الأخير أن تكون سورة الكوثر مدنية وقد روى يونس عن أبي عبد الله الجعفي عن جابر الجعفي عن محمد بن علي ، قال كان القاسم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ أن يركب الدابة ويسير على النجيبة فلما قبضه الله قال العاصي : أصبح محمد أبتر من ابنه فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم إنا أعطيناك الكوثر عوضا يا محمد من مصيبتك بالقاسم فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر ولم يقل إن شانئك أبتر يتضمن اختصاصه بهذا الوصف لأن هو في مثل هذا الموضع تعطي الاختصاص مثل أن يقول قائل إن زيدا فاسق فلا يكون مخصوصا بهذا الوصف دون غيره فإذا قلت : إن زيدا هو الفاسق فمعناه هو الفاسق الذي زعمت فدل على أن بالحضرة من يزعم غير ذلك وهكذا قال الجرجاني وغيره في تفسير هذه الآية أن هو تعطي الاختصاص وكذلك قالوا في قوله سبحانه وأنه هو أغنى وأقنى لما كان العباد يتوهمون أن غير الله قد يغني ، قال هو أغنى وأقنى ، أي لا غيره وكذلك قوله تعالى : وأنه هو أمات وأحيا إذ كانوا قد يتوهمون في الإحياء والإماتة ما توهم النمرود حين قال أنا أحيي وأميت أي أنا أقتل من شئت ، وأستحيي من شئت ، فقال عز وجل وأنه هو أمات وأحيا أي لا غيره وكذلك قوله تعالى وأنه هو رب الشعرى أي هو الرب لا غيره إذ كانوا قد اتخذوا أربابا من دونه منها : الشعرى ، فلما قال وإنه خلق الزوجين وأنه أهلك عادا استغنى الكلام عن هو التي تعطي معنى الاختصاص لأنه فعل لم يدعه أحد ، وإذا ثبت هذا ، فكذلك قوله إن شانئك هو الأبتر أي لا أنت . والأبتر الذي لا عقب له يتبعه فعدمه كالبتر الذي هو عدم الذنب فإذا ما قلت هذا ، ونظرت إلى العاصي ، وكان ذا ولد وعقب وولده عمرو وهشام ابنا العاصي بن وائل فكيف يثبت له البتر وانقطاع الولد وهو ذو ولد ونسل ونفيه عن نبيه وهو يقول ما كان محمد أبا أحد من رجالكم [ الأحزاب : 40 ] الآية .
فالجواب أن العاصي - وإن كان ذا ولد - فقد انقطعت العصمة بينه وبينهم فليسوا بأتباع له لأن الإسلام قد حجزهم عنه فلا يرثهم ولا يرثونه وهم من أتباع محمد عليه السلام ، وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم . كما قرأ أبي بن كعب : " وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم والنبي أولى بهم " كما قال الله سبحانه فهم وجميع المؤمنين أتباع النبي في الدنيا ، وأتباعه في الآخرة إلى حوضه وهذا معنى الكوثر ، وهو موجود في الدنيا لكثرة أتباعه فيها ، ليغذي أرواحهم بما فيه حياتهم من العلم وكثرة أتباعه في الآخرة ليسقيهم من حوضه ما فيه الحياة الباقية وعدو الله العاصي على هذا هو الأبتر على الحقيقة إذ قد انقطع ذنبه وأتباعه وصاروا تبعا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ولذلك قوبل تعييره للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالبتر بما هو ضده من الكوثر ; فإن الكثرة تضاد معنى القلة ولو قال في جواب اللعين إنا أعطيناك الحوض الذي من صفته كذا وكذا لم يكن ردا عليه ولا مشاكلا لجوابه ولكن جاء باسم يتضمن الخير الكثير والعدد الجم الغفير المضاد لمعنى البتر وأن ذلك في الدنيا والآخرة بسبب الحوض المورود الذي أعطاه فلا يختص لفظ الكوثر بالحوض بل يجمع هذا المعنى كله ويشتمل عليه ولذلك كانت آنيته كعدد النجوم ويقال : هذه الصفة في الدنيا : علماء الأمة من أصحابه ومن بعدهم فقد قال أصحابي كالنجوم وهم يروون العلم عنه ويؤدونه إلى من بعدهم كما ترتوي الآنية في الحوض وتسقي الواردة عليه تقول رويت الماء أي استقيته كما تقول رويت العلم وكلاهما فيه حياة ومنه قيل لمن روى علما أو شعرا : راوية تشبيها بالمزادة أو الدابة التي يحمل عليها الماء وليس من باب علامة ونسابة وفي حديث أبي برزة في صفة الحوض أنها تنزو في أكف المؤمنين يعني الآنية وحصباء الحوض اللؤلؤ والياقوت ويقابلهما في الدنيا الحكم المأثورة عنه ألا ترى أن اللؤلؤ في علم التعبير حكم وفوائد علم وفي صفة الحوض له المسك أي حمأته ويقابله في الدنيا : طيب الثناء على العلماء وأتباع النبي الأتقياء كما أن المسك في علم التعبير ثناء حسن وعلم التعبير من علم النبوءة مقتبس . وذكر في صفة الحوض الطير التي ترده كأعناق البخت ويقابله من صفة العلم في الدنيا ورود الطالبين من كل صقع وقطر على حضرة العلم وانتيابهم إياها في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده فتأمل صفة الكوثر معقولة في الدنيا ، محسوسة في الآخرة مدركة بالعيان - هنالك يبين لك إعجاز التنزيل ومطابقة السورة - لسبب - نزولها ، ولذلك قال فضيل : فصل لربك وانحر أي تواضع لمن أعطاك الكوثر بالصلاة له فإن الكثرة في الدنيا تقتضي في أكثر الخلق الكبر وتحدو إلى الفخر والمحيرية ، فلذلك كان عليه السلام طأطأ رأسه عام الفتح حين رأى كثرة أتباعه وهو على الراحلة حتى ألصق عثنونه بالرحل امتثالا لأمر ربه وكذلك أمره بالنحر شكرا له ورفع اليدين إلى النحر في الصلاة عند استقبال القبلة التي عندها ينحر وإليها يهدي معناه الجمع بين الفعلين . النحر المأمور به يوم الأضحى ، والإشارة إليه في الصلاة برفع اليدين إلى النحر كما أن القبلة محجوجة مصلى إليها ، فكذلك ينحر عندها ، ويشار إلى النحر عند استقبالها ، وإلى هذا التفت عليه السلام حين قال من صلى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، ونسك نسكنا فهو مسلم وقد قال الله سبحانه قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين [ الأنعام 162 ، 163 ] فقرن بين الصلاة إلى الكعبة ، والنسك إليها ، كما قرن بينهما حين قال فصل لربك وانحر وذكر في صفة الحوض كما بين صنعاء وأيلة وقد جاء فيه أيضا في الصحيح كما بين جرباء وأذرح وبينهما مسافة بعيدة وفي الصحيح أيضا في صفته كما بين عدن أبين إلى عمان وقد تقدم ذكر أبين وأنه ابن زهير بن أيمن بن حمير ، وأن عدن سميت برجل من حمير عدن بها ، أي أقام وتقدم أيضا ما قاله الطبري أن عدن وأبين هما ابنا عدنان أخوا معد وأما عمان بتشديد الميم وفتح العين فهي بالشام قرب دمشق ، سميت بعمان بن لوط بن هاران كان سكنها - فيما ذكروا - وأما عمان بضم العين وتخفيف الميم فهو باليمن سميت بعمان بن سنان وهو من ولد إبراهيم - فيما ذكروا - وفيه نظر إذ لا يعرف في ولد إبراهيم لصلبه من اسمه سنان . وفي صفة الحوض أيضا كما بين الكوفة ومكة ، وكما بين بيت المقدس والكعبة ، وهذه كلها روايات متقاربة المعاني ، وإن كانت المسافات بعضها أبعد من بعض فكذلك الحوض أيضا له طول وعرض وزوايا وأركان فيكون اختلاف هذه المسافات التي في الحديث على حسب ذلك جعلنا الله من الواردين عليه ولا أظمأ أكبادنا في الآخرة إليه . ومما جاء في معنى الكوثر ما رواه ابن أبي نجيح عن عائشة - قالت الكوثر نهر في الجنة لا يدخل أحد إصبعيه في أذنيه إلا سمع خرير ذلك النهر وقع هذا الحديث في السيرة من رواية يونس ورواه الدارقطني من طريق مالك بن مغول عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله أعطاني نهرا يقال له الكوثر لا يشاء أحد من أمتي أن يسمع خرير ذلك الكوثر إلا سمعه فقلت : يا رسول الله وكيف ذلك ؟ قال أدخلي أصبعيك في أذنيك وشدي ، فالذي تسمعين فيهما من خرير الكوثر .
وروى الدارقطني من طريق جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي والذي نفسي بيده إنك لذائد عن حوضي يوم القيامة تذود عنه كفار الأمم كما تذاد الإبل الضالة عن الماء بعصا من عوسج إلا أن هذا الحديث يرويه حرام بن عثمان عن ابني جابر وقد سئل مالك عنه فقال ليس بثقة وأغلظ فيه الشافعي القول وأما قوله - عليه السلام - ومنبري على حوضي فقد قيل في معناه أقوال ويفسره عندي الحديث الآخر وهو قوله عليه السلام وهو على المنبر إني لأنظر إلى حوضي الآن من مقامي هذا فتأمله .